كثيرةٌ هي السَّـاعاتُ التي ينعقدُ فيها لسانُ المَـرءِ أو يتلعثمُ فيها فلا يفصحُ , ليكونَ صمتهُ أبلغَ من كلِّ حديثٍ , ولكن الحسرةَ المتوقِّدة في نفسِ الشاعرِ لا تنطفئُ بماءِ المزنِ حتى يغرقها الماءُ الموزونُ , وقد فقدت قبل عامينِ حبيباً وقريباً وشاباً وعجزتُ عن كتابة رثاءٍ فيه , ثمَّ بعد أيامٍ كانت هذه الحروفُ وظلت حبيسةً حتى الليلة.
وهذا الحبيبُ أحسبُ أنَّـهُ كان أمَـنةً في هذه الأرضِ , والشاهدُ مجلسهُ في الحرم النبوي , الذي كان ينفردُ بين جنباتهِ خالياً كأبي ذر , وتوفاهُ الله في حادثٍ وهو صائمٌ عائدٌ من تدريسه لكتاب الله تعالى , وهذا ما يجعلني أبكي على نفسي لا عليه , أمَّـا هو فالله وليُّـه وأسأله أن يبلغهُ من الرحمة ما لا يخطر لهُ ببال , وما لم تبلغهُ من الأماني والسؤال.
خانني الشِّعرُ يومَ عزَّ الحليفُ = فبياني لمـا دهاني أسيفُ
أرقُـبُ اليومَ خاطري علَّ معنىً = أبدعَـتهُ رياحُ همٍّ عصوفُ
كَـي يُزيحَ السُّـلوُّ غاشيَ رُزءٍ = وتُلبَّـي قصيدتي وتطُـوفُ
فحسيراً يعودُ طرفُ ارتقابي = إنَّ شعري إذاً أصمُّ كفيفُ.!
كلَّما الحرفُ حرَّكتهُ شجونٌ = أخمدتهُ فهْو القديرُ الضَّعيفُ
المآسي تغـورُ في عمقِ حـسِّي = مثل طودٍ بهِ تغورُ الكهُـوفُ
والليالي لهنَّ بالحُزنِ عهدٌ = سرمَـديٌّ عليهِ منها شُنُـوفُ
أيُّـها الرَّاحِلُ الدَّفينُ بنفسي = إنَّ حُـبي على ثراكَ عَـكُـوفُ
ليسَ يبلـى ولَـو بَلِـيتُ وأبلتْ = كُـلَّ حيٍّ من الأنامِ الحُتوفُ
دوحةٌ أنتَ في رياضِ المعالي = ولصوتِ القُرَانِ فيها حفيفُ
ذا مُصلاَّكَ كانَ أمسِ بهيجاً = ولكم فيهِ مربَـعٌ ومصيفُ
كيفَ آسى إذاً عليكَ وهذا = مسجدُ المصطفى شهيدٌ عَرُوفُ
أنَّـهُ كانَ غايةً في الأماني = وأنيساً وأنتَ فيهِ وَقُـوقُ
تيكَ منهُ رياضُ جنَّـةِِ عدنٍ = طابَ منها لكَ الجَـنى والقُطوفُ
وسَـوارٍ شهِـدنَ أنَّكَ خِـدنٌ = بل سمـيرٌ , فكَيفَ يُنسَى الأَلُـوفٌ
إن يكنْ للذي أقاسي عـزاءٌ = فهْـو أنَّ الإلـه برٌّ رؤوفُ
أوْدعَ الصَّدرَ منكَ أطهـر ذِكرٍ = واصطفاكَ وذاكَ قَدرٌ مُنيفُ
ثمَّ كنتَ من الأُلى هم خيارٌ = علَّـموهُ , وذاكَ ذِكرٌ شريفُ
فاهنإ اليومَ زادكَ اللهُ فضلاً = ورضاءً , ورحمةً , يا حَصيفُ
يا إلهي أتاكَ حِـبِّي نزيلاً = وبكتهُ عند الصلاةِ الصفوفُ
ربِّ أسكِـنهُ جنةَ الخُـلدِ داراً = واغفِرِ الذَّنبَ كُلَّهُ يا لطيفُ
ربِّ أكرمهُ مِـنَّةً بجِوارٍ = للنبيِّ الشفيعِ إذْ يستضيفُ
واسقِـهِ من حياضِ أحمدَ كأساً = لا يهولُ الذي استقاها مَخُـوفُ
ثمَّ صلِّ على النَّـبيِّ وسلِّمْ = ما تداعتْ على سرورٍ صُروفُ
__________________
محمود بن كابر بن عيسى
معيد بقسم الدراسات القرآنية - جامعة الملك سعود