إذا تكلم الأطباء في السياسة
(2/2)
د. أحمد شراب اختصاصي أطفال و علوم وراثية
المملكة العربية السعودية - جدة
مرحباً بك من جديد عزيزي القارئ في الجزء الثاني من هذا المقال ، و الذي خصصته لمناقشة بعض الأمور السياسية من وجهة طبية ! و كنت قد أشرت في المقال السابق إلى أن الأطباء لا يتكلمون عادة في السياسة ! لكنهم إن تكلموا .. فهم من أحسن من تكلم ! و أرجو ألا يفهم كلامي خطأً على أنني أود أن أشير إلى نفسي أو إلى فضل لي في هذا المجال باعتبار كوني طبيباً ، بل إن كل ما في الأمر أنني أتحدث عن فضل أساتذة و زملاء لي و رفقاء درب المسيرة و المهنة ، شاهدتهم و عاشرتهم و خبرتهم ، و رأيتهم في العديد من المواقع ، و كانوا جميعاً ، و الحق يقال ، مثالاً يحتذى في كل مجال !
و إذا أردنا أن ندخل في الموضوع الذي لم ندخل فيه بعد .. أقول إن السياسة عامل مهم مؤثر على صحة الفرد و المجتمع بشكل بات واضحاً و لا لبس فيه ، فإعلان حرب مرتقبة على شعب من الشعوب ، على سبيل المثال ، يسبق بزخم سياسي عرمرم .. يجعل من الشعب المسكين ضحية لألف ميتة و ميتة قبل أن تشن الحرب أوزارها ، و لعل الحرب الأخيرة على العراق توافقني فيما أقول ! هذه الحرب التي هبت نذرها لأول مرة في أوائل العقد الأخير من القرن المنصرم ، و استمرت بين شد و جذب إلى أن دخلت فصلاً جديداً من فصولها في أوائل هذا القرن ، و لا ننسى أبداً إرهاصاتها و شوائنها التي دبت كالمرض العضال في جسد هذه الأمة منذ أن بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بحشد الجيوش و تسيير الآلات و الترسانات الحربية .. و حتى هذه اللحظة ، و أذكر أنني كنت في كثير من الأحيان على خلاف في وجهات النظر و التحاليل السياسية مع أهلي و عائلتي أثناء تسمرنا أمام شاشة التلفاز ، و متابعة الأحداث .. و كان الخلاف يحتد أحياناً ، و لك أن تعرف ، عزيزي القارئ ، ما يعتري الجسد و الروح و العقل و القلب من تغيرات و اضطرابات أثناء هذا الاحتداد ، إذ يرتفع ضغط الدم .. و يتسارع القلب ، و يضيق التنفس ، و تتحشرج الغصات في الحلوق ، و يضطرب التفكير ، و يرجف الجسد .. حتى إنك لتشم رائحة الأدرينالين منبعثة من أجساد الحاضرين ! و كل ذلك يتفاقم و يسوء إذا كان هناك خبر سيء عاجل "كالقضاء المستعجل" و ما أكثر هذه الأخبار ، أو إذا كنت تشاهد القصف الحي على شاشة التلفزة ، و ترى بأم عينيك ما يفعله المخربون في عاصمة حضارة عريقة .. قلّ أن تعرف البشرية لها مثالاً ، و قد كانت مناراً للعالم أجمع ، و لأسلاف هؤلاء المخربين ، في العلم و الحضارة و التقدم و التسامح و العدل و الرحمة ، و ترى البيوت فيها تنسف .. و الأبرياء يقتلون .. و العوائل تشرد .. و الكهرباء تنقطع .. و المياه تتلوث .. و الهم يعم .. و البلاء ينتشر .. و تراك في بيتك آمناً مؤمناً ، و الحمد لله على نعمة الأمن و الأمان ، تتكلم فلا يسمع لك ، و تسب و تشتم بدون فائدة ، و تقوم فتنفس عن انفعالاتك بلطمة أو ركلة لهذا الجهاز الذي لم يعد يبث إلا البلاء و النكد و الضنك ، و لكن .. دون جدوى ! .
أتساءل هنا : ترى .. كم يستطيع المرء أن يتحمل في مثل هذه الظروف ؟ و كم خبر عاجل يلزمه ليعجل بالرحيل من هذه الدنيا ؟ كيف لا أتساءل و النفس هي سيدة الجسد ؟! و العقل سلطانه ؟! و كل ما يؤذي النفس يؤذي الجسد تماماً كما أن كل ما يؤذي الجسد يؤذي النفس ؟!
أتساءل : ترى .. في أي عالم أو في أي كوكب نحن نعيش ؟ و ما أراه إلا كوكباً أصر سكانه على إفنائه .. حيث لم تتورع أعظم الحضارات و أقواها عن تخريب أمنه و المس بتوازنه ، و العبث بمقومات بقائه ، و لا تسل عن شيء بعد أن يتعالى و يفسد من يظن نفسه سيداً ، و لتنتظر أوخم العواقب إذا أفسد من أنيط به الإصلاح ، و هدم من استخلف ليبني ، و هذا حال الأمم و الدول في التاريخ ، فانظر إلى جميع الدول و الممالك السابقة .. أنظر إلى عاد مثلاً .. و هم حضارة بائدة سكنت منطقة اليمن و حضرموت ، و انظر إلى وصف القرآن الكريم لها في قول الله عز و جل : " التي لم يخلق مثلها في البلاد " فأي حضارة و أي عظمة زهت بها تلك الأمة في ذلك الوقت .. لكنهم لما أفسدوا في الأرض .. صب الله تعالى عليهم صوت عذاب .. و الله لا يحب المفسدين و لا الفساد ، و انظر إلى الفراعنة ، و لا تزال شواهدهم قائمة ، و لكن هل بقي منهم من أحد إلا ملفوفاً في موميائه ، و انظر إلى المغول الذين اغتالوا الإنسانية .. فغيلوا و هم في أوج كبرهم و عليائهم . و المشكلة في هذا أن البلاء إن نزل عم ، و إن حل لم يستثن أحداً .. و كمثال بسيط جدا ً ليس إلا ؛ فلننظر إلى نفحة من نفحات هذه البلاء و هو مرض السارس .. و الذي وافق بدايات هذه الحرب ، و كأن هناك حكمة في بعثهما معاً .. أن يتذكر الإنسان مهما علا و طغى .. أنه ضعيف حقير .. و أن فيروساً لا يمكن أن يرى و لا حتى بالمجاهر العادية قادر على أن يهلكه و يفسد في جسده و ألايغادره إلا و قد غادر الحياة !
إنه لألم نفسي بل و جسدي رهيب .. و معاناة جمة .. أن تجد نفسك وسط كل هذه الأوضاع .. منساقاً في لعبة قذرة و لست إلا بيدقاً أو جندياً لا تملك من الأمر من شيء ، ترى مصيراً محتوماً مسوداً ينتظرك .. و أنت تغذ السير مسرعاً نحوه ، و لا تملك أن تقف أو أن تتراجع ، تشعر بالضعف و القهر ، و من القهر ما قتل ! فقد تعلم أن المستشفيات تستقبل يومياً آلاف الحالات القلبية و العصبية و غيرها .. و التي يكون فيها العامل الممرض نفسياً .. فالجسد يتداعى في الكروب و الشدائد ، و يمكن أن يؤدي ذلك لإصابة الإنسان بالعديد من الأمراض مثل ارتفاع الضغط .. و الذبحة الصدرية .. و الاحتشاء و اضطرابات نظم القلب .. و السكتات الدماغية و الوذمات العرقية العصبية ، و الشقيقة و تناذرات الآلام المختلفة و اضطرابات الشهية و انحرافاتها و حالات مثل القهم و النهم العصبي .. و الداء السكري ، و خلوع الأسنان ، و الإجهاضات ، و العقم ، و الحمل الكاذب ، و العمى ، و الزرق ، و تساقط الأشعار ، و الحكة الجلدية ، و الإمساك ، و احتباس البول ، و التبول الليلي ، و الاكتئاب و السوداوية و متلازمات الهوس الكآبي الهمودي و الفصام ، و فشل النمو ، و اضطرابات الطمث ، و أوجاع المفاصل .. و الأورام بل و الزائدة الدودية ..!
فالقلب يا سيدي يمرض .. لأن القلب في الإنسان هو مستقر العاطفة و مستودعها ، و إن كانت مراكزها العليا في الدماغ .. إلا أنها تمارس سلطانها هذا على ذلك القلب المسكين ، فهل يتحمل القلب أن يرى مشاهد لأطفال يقتلون في أحضان آبائهم ؟ و آخرين محروقين أو مقطعين إلى أشلاء ؟ أو إن بقوا أحياء فمصابين بسوء التغذية الشديد و المرض ، و لا دواء و لا غذاء بأيديهم و لا بأيدي آبائهم و لا أطبائهم ؟ هل تحتمل أن ترى طفلاً صغيراً يبكي خارجاً من أنقاض منزله الذي تهدم تحت القصف و قد قتل جميع أفراد عائلته ؟ و لسان حاله يتساءل : لماذا بقيت حياً ؟؟ هل تحتمل أن ترى النساء و الشيوخ يساقون إلى السجن فيزجون به كاللصوص أو القتلة المجرمين ، و يهانون في عقر دارهم .. من غريب ثقيل أقحم نفسه بينهم بالقوة ؟ ألا تنتظر من قلب بعد هذا و غيره كثير .. أن يضطرب نظمه .. و يسوء نتاجه ، و يصاب بالقصور و الكلل ، و الذبحة و الاحتشاء ، و الضغط .. بل و أن يتوقف أحياناً ..؟
أما آلية نشوء السكتات الدماغية Cerebral Ischemic Disordersفهي بسيطة و بديهية .. فإن أنت لم تعالج ارتفاع ضغط دمك .. و لم تنفس عما يكربك .. و سكتّ عن الأذى الذي يلحق بك و بمجتمعك .. فالأولى بدماغك أن يسكت هو الآخر ، و أن يصاب بالنزوف و الاحتشاء و الإقفار و نقص التروية . و أما الداء السكري Diabetes Mellitus.. فيصاب به الإنسان لأن نفسه تعاف السكر و الحلاوة ، فتنبذه كل خلية من خلايا جسمه ، و تتكاتف هرمونات الشدة Stress Hormones مثل الأدرينالين و النور أدرينالين و هرمون النمو و الثيروكسين و الكورتيزول و غيرها ، و هي الهرمونات التي يزداد إفرازها في حالات الشدة و التوتر الجسدي و النفسي ، فيسقط في يد الإنسولين ، و هو الهرمون الذي يحاول جاهداً أمام هذه التظاهرة أن يدخل السكر إلى داخل الخلايا ، فيفشل ..! فيرتفع مستوى السكر في الدم و يقع المرض .
و أحب أن أشير إلى حالة التخلف العقلي Mental Retardation ، و إلى آلية حدوثها في مثل هذه الأزمات .. فعندما ترى المنطق يتحطم فجأة أمام عينيك ، و ترى الأحداث تتسارع دون هدف أو غاية ، و تجد نفسك في بؤرة يتسلط فيها عليك الكذب من كل حدب و صوب ؛ فكل هذه الحرب الضروس ستشن من أجل السلام !!! و كل هؤلاء الأبرياء سيقتلون و يشردون من أجل البقاء !!! و إن الاحتلال هو من أجل الاستقلال !!! و ليس من أجل النفط .. و مآرب أخرى !!! و رعاة السلام هؤلاء يمارسون علينا سلامهم لأنا نسعى ، كما يكذبون علناً و في وضح النهار ، لامتلاك أسلحة الدمار الشامل ، و هناك كيان مستعمر بين ظهرانينا يعلن ، و في وضح النهار ، أنه يمتلك ترسانة من أكبر و أقوى ترسانات الأسلحة النووية و أسلحة الدمار العام الشامل و الكامل !!! و لكنك تفاجأ بأنك أنت المستهدف .. و أنت الخطر الأكبر على السلام ، و أن غيرك إنما يدافع عن أمنه ؛ و دفاعه مشروع .. أما أنت فـلـتـَــقــُــل سمعاً و طاعة .. أو لـتــُــقــْــتــَــل ! و تشاهد و تسمع مظاهرات بعشرات الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم للوقوف في وجه حمام الدم المزمع سفكه .. ليقول قائل بعدئذ إن الديمقراطية هي التي تفرض علينا خيار الحرب !!!
بعد كل ما سبق .. و غيره كثير جداً .. ألا تكتشف أنك قد تكون مصاباً بالتخلف العقلي ؟؟!! بل و بدرجاته الوخيمة ! فأنت لم تعد تفهم حقاً ما يجري ، أو أنك دائماً تفهمه بخلاف ما يفهمه أولئك المشاركون به .
و قس على ذلك باقي الأدواء و العلل ، ناهيك عما ينجم عن الحروب من الإصابات المباشرة في ساح المعارك من حوادث و موت و بتور في الأطراف ، و التهابات ، و نتائج الحرب و وقعها الوخيم على البيئة و المجتمع نفسياً و جسدياً ، دون أن ننسى الوسائل التكنولوجية الحديثة و ما تحمله من أمراض و خباثات يعم شرها و لا يخص ، مثل قذائف اليورانيوم المنضب و إشعاع القنابل المختلفة و غير ذلك من الكوارث العابرة للحدود .
و تتفنن القنوات الفضائية و الإعلام الحربي ، إن صح التعبير ، في "تزيين" الخبر و إظهاره بالفداحة اللازمة ! دون انتقاص من خطورته أو تخفيف من وقعه ، و لعلك تلحظ ذلك في الشاشات الحمراء و الومائض الملفتة للانتباه و الموسيقى التصويرية التي تضفي على الموقف أو الخبر ما يناسب فساده و يوازي خطورته ، بل إنك تلحظ ذلك في نبرات صوت المذيع و المراسل و كلماتهما المختارة بعناية .. ليقول لك الكل بعد ذلك .. إنك حقاً تسمع هذا النبأ السيء !! و أنك لست في حلم !! بل أنت في صميم الواقع .. نعم .. لقد حدث كل هذا الشر فتأمل فيه !!! و كأن القنوات التلفزيونية أبت على نفسها ألا تدعك تتابع أغنية أو فلماً أو حتى رسوماً متحركة .. دون أن تصاب بالرأرأة .. نتيجة لمتابعتك لشريط الأخبار المتحرك الذي يفتل و يدور في أسفل الشاشة !! و يلقاك المذيع و هو في مظهره اللائق و هندامه المميز ، كما تلقاك المذيعة الفاتنة خفيفة الظل .. ليقولا لك في بداية النشرة : مساء الخير .. و من ثم يبدآن بتلاوة المصائب و الشرور و البلاوي ..! فمن أين سيأتي الخير يا ترى ؟!
و ما العلاج ..؟
حتى لا أكون مثبطاً للعزائم .. مزحزحاً للهمم ، و أنا و الحمد لله لست كذلك ، أرى أنه من واجبي أن أضع الأمور في نصابها ، فعلى الرغم من ما أوردت من أن الحروب ذات عواقب مرضية سيئة من جنس ما أشرت إليه ، إلا أنني أقول إنه لا يقع في شرَك أمراضها إلا من رضي بها و ركن إليها ، و قعد في ظلمها ، و أقول إن العلاج يكمن في جنس الداء و روحه ، فالداء أحياناً يكون خير دواء ..!!
إن ديدان البطن التي تمكث فيه فتمص خيرات الإنسان و غذاءه الوارد إليه و تصيبه بالمرض .. إنها علاج في حد ذاتها .. كيف ؟
لو كان المرء على حيطة و حذر و مراعياً لقواعد النظافة في مأكله و مشربه .. لما أصابته هذه الديدان أبداً ، فهي مرض و ابتلاء .. إن لم يعالجها فقد تقضي عليه ، و هو إن عالجها و بقي على عهده في إهماله .. عادت و أمرضته ، أما إن عالجها و عالج ما يساعد على إصابته بها .. فقد كفل بذلك لنفسه الشفاء التام و الذي لا نكس فيه .
إن الداء يكون أحياناً حاضاً للمرء على البحث عن السبل الكفيلة بتخليصه منه ، و داعياً له لبذل كل ما يتطلبه هذا الأمر حتى يتحقق ، فالإيدز مثلاً ، منع الكثيرين من اتباع الوسائل اللامشروعة و الجنس المحرم و أبعد غيرهم عن الإدمان و المخدرات ، و التهاب الكبد الوبائي حثنا على تطوير وسائلنا العلمية و التقنية الهادفة للكشف عن الفيروسات المسببة و التخلص منها ، و السرطان سبب لإجراء الفحوص الدورية الشاملة و الكاملة حتى من دون أن يكون المرء مصاباً بأي مرض .
و من هذا أقول .. إننا يجب أن يضيء كل واحد منا شمعته قبل أن يلعننا الظلام الذي حل علينا .. و أطبق على متنفسنا ، علينا أن نستخلق نجاتنا من لب ما قد يهلكنا ، أن نلملم الضياء من فضاءات العتمة ، أن نلبي الفاقة و الحاجة بالاختراع و الابتكار ، ألا نقف مكتوفي الأيدي ، فكل واحد منا له ما يقوم به ، و عليه واجبه الذي لا يمكن له أن يتخلى عنه أو أن يتخاذل في أدائه ..
و الحديث في هذا المقام يطول و يطول ، و العمل على ما ذكرت أيضاً يطول و يطول ، لكن الصبر .. الصبر ، فلا يجب أن يجد اليأس طريقاً إلى نفوس عمرت بالأمل ، و لا يسمح للقنوط أن ينال من الهمم ، فمن يتهيب صعود الجبال .. يعش أبد الدهر بين الحفر .
أن تقر بالواقعة .. هذا هو أول الطريق نحو الخلاص ، فقد كان هدفي من كتابة صدر المقال أن يتذكر كل منا النائبة التي ألمت ، و الفاجعة التي حصلت ، و أين يتذكرها دائماً ، و ليس فقط عندما يتمدد مساء أمام التلفاز منتظراً مسلسل المساء و السهرة !
إن لم تكن تعرف بأنك مريض .. فهل ستذهب إلى طبيب ليعالجك ؟؟! لكن .. أن تقر بمرضك .. فيكون الخوف و الحذر ، و الرجاء و الأمل .. جناحين لك بهما تتوازن حياتك و يستقيم أمرك حتى تصل بعلمك و عملك إلى هدفك و طموحك سالماً ... هذا هو الحل .
أن تقر بعدئذ بالمسؤولية .. فأنت مهما كنت و أينما كنت .. مسؤول ، و لا أحد مستثنىً للأسف من هذه القاعدة ! و كونك مسؤولاً .. فهذا يعني أن عليك ما عليك من الواجب الذي يناسب حجم و ثقل مسؤوليتك . و لا تكون المسؤولية أبداً بسماع الأخبار و مشاهدة صور الكاميرا و متابعة وسائل الإعلام .. و من ثم نتأتئ قليلاً .. أو نغضب قليلاً .. أو يبكي بعضنا قليلاً أو حتى كثيراً .. و بعد ذلك "تعود ريما إلى عادتها القديمة" ، و إنما .. ليفصّـل الكل واجبه على قدر مسؤوليته ، و ليعمل كل واحد منا ضميره أولاً و قبل ذلك ، فإن كنا نروم الخلاص .. فسيقوم كل واحد منا بدوره و زيادة ، و إن كنا نرضى بالحال القائم .. فنحن لا غيرنا ، و أبناؤنا أيضاً .. الذين سندفع الثمن .. و هو ثمن باهظ .. و باهظ جداً من استباحات الكرامات ، و تطاول القادرين على المقدور عليهم ، و الكبراء على الصغراء ، الأمر الذي يجعل الأرض أشبه بغابة كبيرة يأكل فيها القوي الضعيف ، و يتسلط فيها المتبوع على التابع ، فتنتفي عنا صفاتنا الإنسانية التي ميزنا الله عز و جل بها عن سائر مخلوقاته .
و لا يظن أحد أنني غامض فيما أقول أو أنني أعقد الصورة ، على العكس تماماً .. فالكل حقاً يعرف تماماً ما يجب عليه أن يقوم به على كافة الصعد و في كل المستويات ، إذ لا يستطيع أي واحد منا أن يصف دواءاً ناجعاً للجميع ، فكل واحد يلزمه دواؤه الخاص به ، و الذي قد لا ينفع مع غيره ، و لا أستطيع أن أصف للمريض المصاب بمرض عضال مخدراً أو مهدئاً .. إلا إذا كنت عاجزاً عن إيجاد الدواء الشافي له ، و بهذا فأنا أصبره على ألمه و مرضه حتى يتوفاه الموت .. لا أكثر ! كل واحد أقر بمرضه حقاً هو أقدر على إيجاد أفضل السبل التي توصله إلى العلاج النافع و المناسب ، متسلحاً يإيمانه بربه ، و من ثم اعتقاده بأمته و عزته و كرامته ، و ألا ينسى أبداً أنه من سلالة حكمت الأرض فملأتها عدلاً و نوراً ، و حان الآن ليعود إلى تسلم زمام دوره هذا و مسؤولياته .
و رب قائل ما يقول و قد غاصت همته في العجز ، و تمرغ حسه الإنساني بالأنانية و التوحد .. " و هل أنا من سيصلح الكون ؟؟" و هي جملة يكمن الداء فيها و تنبعث من حروفها العلل ! نعم يا سيدي .. أنت من سيصلح الكون ! و لم لا !؟ لقد مر على الكون كثير من المفسدين و كثير من المصلحين ، و لكن .. هل كان أحد هؤلاء المصلحين يعلم أنه هو من سيصلح الله به هذا الكون ؟!
لو قالت كل كرية بيضاء في جسم الإنسان هذه الكلمة .. لما تمكنت جيوشها من القضاء على المرض أبداً ، حتى في الأمراض المعضلة التي لا تملك الكريات البيضاء أمامها أي حول و لا قوة .. تجدها محاربة دائماً .. تقذف بنفسها في رحى المعركة ، و تجعل من خليتها أواراً لها دون أن تنتظر النتائج فتفنى حتى قبل أن يتحقق النصر ! المهم في ذلك أن حياة الجسد كاملاً .. مازالت مستمرة ، و ستبقى مستمرة طالما بقيت كل خلية تقوم بوظائفها على النحو الذي هيئت له .
نعم يا سيدي القائل هذه العبارة .. أصلح نفسك .. يصلح بك الكون .. فجرب .. لا تخسر شيئاً من التجربة .
أن لا يظن أحدنا أنه في مأمن من الخطر .. فيظن أن هذا الخطر البعيد .. الذي أصاب جاره أو حتى مواطنه في مجتمعه أنه لن يتهدده أو يبلغه و لو بعد حين ، سواء كان ذلك خطراً وجودياً حقيقياً أم خطراً خلقياً أو اجتماعياً أو خطر مبادئ و معتقدات تفشى في المجتمع ، فلو سكت الناس عن أجرب يمشي بينهم .. لأصيبوا جميعاً بالجرب ، و لا يمكن لهم أن يتناسوه لأنه موجود ، و لا يمكن أن يتخلصوا منه .. لأنه لا ذنب له فيما ألم به ، و إن كان أذنب .. فداؤه كفيل بتقويمه و تصحيح مساره ، و الواجب في هذه الحالة أن يعمدوا إليه فيعالجوه .. و يقوا أنفسهم و يقوه من مغبة الوقوع في مرضه .
أن نلتقط لحظات الانتصار و الكرامة .. حتى و نحن في أحلك الظلم .. هذا من العلاج ، أن نروج لما يظهر عزتنا و كرامتنا و انتصارنا ، أن نباهي بمقاومتنا في كل مكان .. في العراق ، و في فلسطين ، و في كل أرجاء الأرض .. أن نعلم حقاً أن هذه المقاومة تؤتي ثمارها .. و تفعل فعلها السحري في من احتل و اغتصب ، أن تراها حجر عثرة كؤود لا يفل عزمها في طريق المعتدين ، و شوكة غاصة في حلوقهم ، و ورقة ضغط بين أيدينا و في سياساتنا ، هذا هو العلاج . ألاّ نقول .. و ماذا سيفعل الحجر الصغير في دبابة مزمجرة ؟ و ماذا سيفعل شعب أعزل في وجه أكبر و أقوى جيش في العالم ؟ و كم سيقاوم عشرة قد يموتون في أية لحظة .. أمام مئات الألوف المتوافدين و الباقين و المدججين بالسلاح ؟ فإذا صدف و تساءلت بمثل هذه الأسئلة .. فليس لك عندي جواب ، و الجواب هو ما رأيته و ستراه من المقاومة و أفعالها .. لا ما سأنبيك أنا عنه ! و لنتذكر أن الكل مقاوم ، و أن المقاومة ليست حكراً على السلاح ، فكل من يقدر على عمل مفيد .. فقام به .. فهو مقاوم ، بدءاً من مقاطعة المنتجات و البضائع ، و دعم الصناعات الوطنية ، مروراً بالكتابات و المقالات ، و المسيرات ، و انتهاءاً بالعمليات الميدانية المختلفة .
أن نلتحم جميعاً .. فنغدو يداً واحدة ، و ننسى ماضينا المتخالف ، و نصهر تفرقنا وحدة ً أمام عدونا المشترك ، و أن يعلم كل واحد منا أنه على ثغر .. فلا يؤتين ّ من قـِـبـَـلـِـه ، و لا يسمح لأحد أياً كان أن يستغله أو أن يشتري آراءه و مواقفه و شعبيته و تأثيره في الناس .. لصالح من يقول حقاً ليريد به الباطل ! .
أن تنير دربك بنار غضبك .. أن تبني وحدتك من اختلافك ، أن تقوم بعد ضربة قوية .. لم تقصم ظهرك .. فتقوي نفسك بها و منها .. و تتعلم منها الدروس و العبر ، و لا تجعل عدوك يوهمك بأنك الآن انتهيت .. لأنه إلى الآن لم يستطع أن ينتهي منك في أي مكان .. لا في فلسطين .. و لا في العراق .. و لا في أي مكان آخر ! فلا تجعله يمثل عليك انتصاره .. فيقذف فيك الرعب و الهلع ، و يخوفك بأصوات مقرقعة نابعة من ظلامه الذي اعتاد أن يعيش فيه ، فتظن أن في هذا الظلام حتفك و نهايتك ! و إن يكن كذلك ..! فأنت لا يهمك ذلك ..! أنت لا تعيش لنفسك ! أنت لست فرداً واحداً .. أنت مجتمع .. و ما تساويه حياة الفرد إزاء حياة مجتمع بأسره ..؟! أنت تفهم هذا المعتقد .. أما هو .. فلا ..! هو يتساءل كيف أنك تقوم بعملياتك الانتحارية فتوقع به الخسائر الفادحة .. ! هو لا يتساءل عن خسائره بقدر ما يتحير فيك هذه النفس المعطاءة التي لم تبخل حتى بحياتها من أجل حياة الآخرين ! فيغدو يراك في كل امرئ من ناسك و مجتمعك .. يخاف منك حتى بعد موتك .. يخاف من أشباهك و أقرانك .. و يتمنى أن لو مات في آخر عملية انتحارية شهدها خير له من هذا العيش المخيف الذي لا أمن فيه ، و كأنك كمن قال الله تعالى فيه :"قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم ."
و أخيراً ..!
هذا وصف موجز للمشاكل الطبية في الشؤون السياسية .. فهي باختصار مشاكل ناتجة و مسببة لمشاكل أخرى أشد خطراً من مشاكلها المباشرة ، و هذا ما رأيته في ذلك و أحببت أن أذكره في المقال ، فأرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم ، و أرجو أن تكونوا قد استنفعتم (و لا أملك أن أقول قد استمتعتم !) فاعذرونا إن نكدنا عليكم .. أو إن خالفت نهجي الكوميدي الساخر في الكتابة ، لكني شعرت أن من واجبي أن أقول ما قلت و أن أكتب ما كتبت .. و ذلك على الأقل من باب الصداقة .. فالصديق الحق هو من يصدقك فيكون كل واحد منكما مرآة للآخر يرى فيها حقيقته و صوابه كما يرى فيها أخطاءه و مشكلاته فيتعاونان على حلها بالشكل الأفضل و الأمثل .
ربما هذا المقال يشير إلى ما سيحدث إن تكلم الأطباء في السياسة ... هل ترون أن يتكلموا في السياسة .. أم أن يقتصروا على الكلام في الطب ..؟!