لو قدّر لنا أن نعيش لنحيا أكثر ...!
د. أحمد يحيى شراب
أخصائي أمراض الأطفال و الأمراض الوراثية
لعلك نظرت يوماً في المرآة أو في صفحة رقراقة لينبوع متهاد ، و رأيت إتقان صنع الخالق جل و علا و إبداعه الذي يتجلى ، فيما يتجلى به ، في خلقك . إنك على ماأنت عليه تمثل قمة الإبداع الذي نعرفه مما أودعه الله في هذه الأكوان أجمعها ، فهل وعيت ذلك مرة .
قرأت مرة في مجلة علمية متخصصة مقالاً علمياً ناقش فيه أحد رؤوس ما يعرف بعلم الأحياء التطوري Developmental Biology فكرة صغيرة مفادها أنه لا بد من أن يتم إدخال بعض التحسينات على البشر قلباً و قالباً و ذلك من أجل أن تزداد أعمارهم ، و أن الهيئة الحالية التي خلق عليها الإنسان لا تناسب التقدم في العمر كثيراً ، أو كما يقول ، لا تناسب الخلود !
و من جملة ما "اقترحه" الكاتب من تعديل على "خلقة" الإنسان أن يكون الإنسان أقصر مما هو عليه حالياً ، أي أن يتراوح طوله ما بين 70-90 سم أو متراً على أطول تحديد ! لأنه ، و حسب وجهة نظره ، سيكون في هذه الحالة أخف وطأة على القلب و الأوعية الدموية ، حيث تقاوم هذه الأعضاء و تتحدى الجاذبية الأرضية الأمر الذي يجعلها في حال أفضل لو خففنا من هذا التحدي ، فلا يجد القلب مقاومة كبيرة لضخ الدم إلى أنحاء بعيدة ، و لا تمرض الأوعية و الأوردة بالذات و هي تعيد الدم من الرأس و الأطراف إلى القلب ، و تكون الدورة الدموية الجهازية و الرئوية مختصرة ؛ لكن كاملة ، كما أن ذلك من شأنه أن يطيل في عمر الكريات الحمر و البيض و العناصر الدموية الأخرى ، بدل أن تستهلك عمرها لتسير لمسافات أطول ، هذا عدا عن أن قصر القامة يولد خفة في الوزن و سهولة في الحركة ، الأمر الذي سينعكس أيضاًً على القلب و البدن إجمالاً بالنفع و الفائدة .
إذاً ، و حسبما يقول هذا العالم ، كن قصيراً تعش طويلاً ..!
و يرى هذا الكاتب أيضاً أن الرأس عند هذا الإنسان لا بد أن يكون أكبر من حجمه الحالي ، و أن تخف كمية الأنسجة المستخدمة في الوجه على حساب زيادة الفراغ المخصص لحجم دماغي أكبر نسبياً ، و بهذا نسمح لنشوء مراكز أكثر تخصصاً في البنى العصبية المركزية و الدماغ خصوصاً ، الأمر الذي سيحسن ، حسب رأيه ، من التفاعل العصبي الحسي و الحركي عند الإنسان ، و سينظم منعكساته و يجعلها أسرع استجابة و أضمن نتائجاً ، و بهذا تزداد ملكة الإنسان في الحفاظ على حياته بمنعكسات جديدة و منظمة ، فيتمكن من التخلص الاإرادي من الأخطار ، و يتعلم الهرب السريع و اللاإرادي من سيارة مسرعة مثلاً و غير ذلك في مجابهة الأخطار .
كما يجب أن تكون العينان ، و الكلام لنفس المؤلف ، أكبر و أشد تدويراً ، و يجب أن تكونا جاحظتين أكثر حتى يتغلب الإنسان على الأنف الذي يحتل حيزاً في حقل الرؤية لديه الأمر الذي يمكنه من الرؤية بشكل أفضل و بالتالي حماية نفسه بشكل أفضل أيضاً ، كما لابد أن تكون البروتينات المستخدمة في العدسات البلورية العينية أقل كثافة الأمر الذي يؤخر من الإصابة بالساد العيني أو ما يصطلح أحياناً على تسميته بالماء البيضاء في العين ، و يفضل أن تكون عيون كل البشر بألوان غامقة ، و كذلك جلودهم ، لأن الألوان الغامقة أشد مقاومة لعوامل الطقس و الشمس . من ناحية أخرى لا بد أن يكون القطر الأمامي الخلفي للعين أفصر حتى تتمكن العدسة من تركيز الضوء بشكل أفضل و جهد أقل ، مع زيادة توعية الشبكية و حجم اللطخة الصفراء ، و هي الموقع الأحد رؤية في الشبكية من باقي أقسامها ، دون أن ننسى زيادة عدد النهايات العصبية الحساسة للرؤوية الليلية ، و زيادة تمييع الخلط الزجاجي ، إضافة إلى الجفن الثالث الذي لا بد أن يكون أوضح و فعالاً كما في الطيور فيتمكن الإنسان أن يتمتع بالرؤية في مواجهة الرياح و الغبار و غيرها من العوامل الجوية .
أما الأذنان .. فتصور أنهما لا بد أن تكونا أطول مع نهايات علوية مستدقة و تفاصيل أدق في تعرجاتهما ، و لا بد أن تكونا قادرتين على الحركة ، أي أن يتم تفعيل نشاط العضلات الصدغية بحيث يتمكن الإنسان من التقاط الأصوات و تحديد مواقعها بدقه من خلال تحركهما ، بالشكل الذي يؤمن له الهروب من الأخطار .
و الأنف أصغر مع تكبير حجم فتحتيه و زيادة الأشعار فيهما ، و لا بد أن يكون الأنف أفطس أيضاً ، حتى يسهل ذلك دخول الأكسجين إلى الرئتين بمقاومة أقل ، أما الفكان فلا بد أن تقل أنسجتهما العظمية و يزداد حجم الجيوب و يقل إفراز المخاط نسبياً ، و يفضل أن تكون الأسنان القاطعة حادة و مؤنفة ، و تكون الأضراس مستوية لأن ذلك أدوم و أمضى على المضغ ، و إن كان هذا يعني أن الحديث لن يغدو مهماً كثيراً بالنسبة لهذا "التصميم الجديد" .
و الشفة العلوية المشقوقة تفيد في التعامل مع العناصر الخشنة و الشئزة في الطعام ، و اللسان الأصغر حجماً يقلل من احتماليات ارتداده إلى الخلف و بالتالي الاختناق ، كما لا بد من أن يكون مستوى الحنجرة أعلى بكثير مما هو عليه حالياً و ذلك حتى يتم التفريق بين مداخل الطعام و الهواء الأمر الذي يقلل من فرص الاختناق الذي قد يحدث بالمصادفة أثناء الحديث أو تناول الطعام .
لا بد أيضاً أن تكون الرقبة في وضعية أكثر انبساطاً (أي أن يبدو الإنسان و كأنه ينظر إلى الأعلى) ، حماية للنخاع الشوكي و التراكيب العصبية و الفقرات الحاملة للجمجمة ، فيما لو حدث ما يؤدي إلى خلع أو كسر هذه البنى العظمية ، على أن يكون العمود الفقري في جزئه الصدري أشد انعطافاً إلى الأمام ، مع التقليل من طول العمود الفقري و زيادة مرونة و سماكة الأقراص بين الفقرية ، و هذا ما سيسمح بالنهاية بانخفاض حدوث مشاكل التنكس و الديسك و غيرها .
أما القفص الصدري ، فيجب أن يكون أقصر من الأمام و الخلف ، و أن تتبارز عظمة القص التي تربط بين نصفي مجموعتي الأضلاع في الطرفين ، و بهذا يخف الجهد على كل من القلب و الرئتين أثناء التنفس الذي سيغدو حينها أعمق و أكثر فعالية ، و لا ينسى الكاتب أيضاً ضرورة إضافة ضلعين إضافيين في الناحية السفلية من القفص الصدري لتحميا كلاً من الكبد في اليمين و الطحال في اليسار بشكل أفضل و لا سيما في حالات الرضوض و الحوادث .
ماذا عن الجهاز الهضمي ؟ لا بد أن يكون هذا الجهاز أقصر طولاً ما عدا في منطقة الأمعاء حيث يحافظ على طوله النسبي هنا ، و ينبغي أن يخف إفراز الحمض قليلاً و أن تزداد سماكة المخاط في المعدة ، كما لا بد أن تكون الأمعاء أقل امتصاصاً تجاه المكونات الغذائية و أن تزداد العناصر الامتصاصية للسوائل في الأمعاء الغليظة حتى لا يتسبب الأكل الزائد بزيادة الوزن من جهة و يزداد امتصاص الماء و السوائل من جهة أخرى ، و حتى لا يتم امتصاص الكثير من السكريات بشكل يمد في أجل البنكرياس الذي ينبغي أن تزداد فيه كتلة خلايا جزر لانغرهانس المفرزة للإنسولين و الغلوكاجون .
و حبذا لو كانت الرحم أسمك جداراً و أصغر حجماً ، و أن تكون مدة الحمل أقل من 4 أشهر ، و أن يتم تنظيم التزاوج وفق مواسم معينة .
الأطراف الأقصر ستقلل من التهاب المفاصل ، و تزيد من قوة الحمل و المشي حسب مبدأ الروافع ، و إن وصف العمود الفقري السابق الذكر و الذي يتميز بعدم نزول كامل الثقل على الركبتين سيقلل من التهاباتهما ، و الأمر اللافت للنظر في هذا التصميم المقترح هو أن يكون تمفصل العظام في الركبة يوجه حركة المفصل نحو الخلف ، على عكس الحركة الحالية في المفصل الطبيعي للركبة ..! لأن هذا من شأنه أن يسرع الحركة و يخفف من الالتهابات و التخربات التي تحصل في المفاصل مع التقدم في العمر .
و أخيراً ، يقترح الباحث أن يكون لون البشرة أخضر غامق مشوباً بحمرة غامقة أرجوانية ، بسبب احتواء الدم على كل من الهيموغلوبين و الكلوروفيل ، حتى يتمكن الإنسان ، إن صح أن يطلق عليه إنسان حتى هذه المرحلة ، من صنع غذائه ، إن انعدمت به السبل ، و ذلك اعتباراً من الماء و الهواء و التراب .. و أشياء أخرى تماماً كما يحصل في النباتات .
لن أمضي أكثر من ذلك في وصف هذا التصميم البشري ، لأن المؤلف راح يصف تفاصيل خلوية و مجهرية دقيقة بحيث يؤمن ، حسب وجهة نظره ، حماية أفضل من السرطان و الالتهابات و آفات أخرى .
فتأمل عزيز القارئ في هذا "النموذج" إن صح التعبير لهذا "الكائن" المقترح ! قصير القامة أخضر اللون كبير الرأس صغير الوجه متقوس الظهر و معكوس تمفصل الركبتين مع أذنين طويلتين و عينين مدورتين و جاحظتين و أنف صغير كبير القتحات و أفطس ...!
هكذا ينبغي أن نكون ، كما يرى المؤلف ، حتى نتمكن من مواجهة الحياة بشكل أفضل و بالتالي لمدة أطول . و على الرغم من أن المؤلف عاد و استدرك في نهاية المقال ما كتبه قائلاً إن هذا التصميم كان كمجرد دعابة ، و أن الله لا بد و أنه خلقنا بأفضل حال ، إلا أننا نتمكن فعلاً من التقاط بعض النقاط في هذا الحديث ، و أعيد فاقول أولاً و أخيراً أن الله جل و علا ، خلق فأبدع ، في الكون كله ، بما في ذلك الإنسان ، على الحد الذي لم و لا و لن يتمكن أحد من الاعتراض أو التساؤل عن حكمة من حكم الخلق هذه و التي لا يعلمها إلا هو سبحانه . إن الجميع يعلم ، و كذلك مؤلف المقال المشار إليه و الذي نشر في مجلة العلوم الأمريكية ، أن هذا الكلام مردود عليه ، و أن التصميم الذي اقترحه سيترافق بالضرورة مع مشاكل أخرى تقصر في النهاية من عمر هذا المخلوق ، و بالتالي الحشف و سوء الكيلة ، و هذا مثل عربي قديم يضرب لاجتماع السوء في الأمور كلها دون فضل على أي وجه ، فتصور أنك أردت أن تشتري تمراً فباعك البائع أسوأ ما عنده ، و هو الحشف ، و بخس لك في الوزن و زاد عليك في الثمن ..! .
إن لكل شيء في هذه الدنيا نهاية ، و لا نتوقع أن يبقى فيها شيء أو أحد ، إلا وجه الله تبارك و تعالى ، و بالتالي ما الفائدة من إطالة الأجل ، أو من الخلود إذا كانت له نهاية ، و لا سيما إذا كانت على هذه الخلقة ، فأنا ، و أظن الجميع معي أيضاً ، لن نحب الحياة التي لا نكون فيها قادرين على النظر إلى أنفسنا في المرآة ! فما بالك إذا كانت الأرض ملأى بهذه الأشكال ؟ .
و لعل من المفارقات أن الوسائل المعدة في هذا التصميم الجديد أعدت أصلاً لمقاومة ظروف الحياة ، فلم يرغب أحد بالعيش ضمن ظروف لا تعاش إلا بالمقاومة ..؟
و أحب أن أذكر هنا أن وسائل الحياة بأجملها هي نفسها وسائل الموت ، أي أن العمر كلما طال قصر ..! و إن هذا الأكسجين الذي يتنفسه الإنسان ، و الذي سيختنق و يموت لو انقطع عنه ، هو بحد ذاته الذي يؤدي إلى تشكل الجذور الحرة في الأغشية الخلوية ، و هي مركبات سامة و ضارة يعتقد أنها السبب الحقيقي الكامن وراء الشيخوخة .. و الموت .
ثم ما هذا الكسل الرهيب الذي يحب أحد أن يصبغ حياته به ؟ أفلا تستحق الحياة ، و هي نعمة الله على مخلوقاته الحية ، أن نتعب قليلاً من أجل أن نمضي فيها أعمارنا ، ألا يجب على الإنسان أن ينتبه أثناء تنقله و حركته أن ينتبه ، و لو قليلاً ، لمصادر الأذى فيبتعد عنها ؟ أم لا بد أن يكون كل ذلك مؤتمت و بشكل ميكانيكي و وفق حركات لا إرادية ؟! ألا توافقون معي أن الإنسان لو تعلم أن لا يتكلم أثناء طعامه ، إضافة إلى آليات الحماية الموجودة لديه فعلاً في لسان المزمار ، فإنه سيقلل بذلك من فرص اختناقه أثناء تناول الطعام ..؟!
أخيراً أقول : إن الجمال شيء لا يستغنى عنه في الحياة ، و أعني الجمال بكافة أشكاله و أصنافه ، الروحي منها و الشكلي ، و باعتبار أنني تعرضت في مقالي للتغيرات الشكلية التي "ينبغي" أن يجريها الإنسان حتى يصبح أطول عمراً ؛ فإنني أقول إن جمال المرء ضمن عمره المقدر له من قبل الباري عز و جل أفضل له من طول عمره و ذمامته المقترحة من قبل مؤلف المقال المذكور ، و أنا أحد الناس الذين يعشقون الجمال و يتحرونه في كل شيء ، في المأكل و المشرب و المنظر و المسموع و المقروء و المكتوب ، و في الشكل بالتأكيد ، و طبعاً أولاً و أخيراً ، في الروح و الطباع و الأخلاق . إنني أتنسم هذا الجمال ، و أراه في كل ما يبدعه الله جل و علا من خلق ، و يكفيك أن تنظر إلى وردة جميلة و تشتم رائحتها الجميلة و تتلمس جمال بتلاتها و نعموتها ، أو يكفيك أن تنظر إلى جمال غروب الشمس و تدرجاته اللونية في سماء لا ترى فيها من فطور ، أو أن تستمع إلى لحن جميل جداً أبدعته حنجرة عندليب صغير جميل أيضاً ، أو أن تتطلع إلى جمال الخلق و قوانينه المجبولة عليها كل من الطبيعة و الإنسان و الحيوان و الجماد ، أو قد يكفيك أن تتمتع بالنظر إلى إنسان جميل ، أو إنسانة ربما ! و ترى عظمة الإبداع الرباني في هذه العيون أو في ذلك القوام أو في ملامح الوجه و التكوين في تناسق أخاذ لا يمكن لأي كان ، ما خلا الله سبحانه و تعالى ، أن يبدع مثله و يمتعنا به .
من ناحية أخرى يكفيك أن تشاهد بعض حالات التشوهات الخلقية التي تصيب بعض الأطفال و ترى كيف يمكن للمرء أن يكون شكله فيما لو لم يتمم الله خلقه و يعدل صورته ، عندها ستعلم حق ما أقول ، و الغريب في الأمر أن هذه العديد من هذه التشوهات يتنافى مع حياة الإنسان ، أي أن العديد من المصابين بهذه الحالات ، و لا سيما أشدها تشويهاً ، سوف لن يتمكنوا من الحياة ، و يكأن الحياة لا توهب إلا "للحلوين" ، لأن مثل هؤلاء حتى لو تمكنوا من تجاوز الفترة الأشد في حياتهم سوف يبقون أحياء مع أناس يذكّرونهم دوماً بما هم فيه و بما أصابهم . إن التشوهات الخلقية لا تزال على قائمة العوامل المؤدية إلى وفاة الأطفال و المواليد الجدد في الدول الصناعية و المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية . إن الحياة إجمالاً شكل كبير و متنوع من أشكال الجمال ، و بالتالي كل تشويه يطرأ فيها سيتنافى معها و يحد منها .
أسأل الله الكامل الأوصاف ، و الذي ليس كمثله أحد ، و هو الجميل الذي يحب الجمال ، أن يديم علينا جمال النعمة ، و نعمة الجمال في كل أشكالها و أصنافها